]center]المبحث الأول
خيار من خيار "نسبه صلى الله عليه وسلم"
هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كِلاَب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فِهْر بن مالك بن النضر بن كِنانة ابن خزيمة بن مُدْرِكَة بن إلياس بن مُضر بن نزار ابن معدِّ بن عدنان فهو خيار من خيار ، كما قال صلى الله عليه وسلم عن نسبه : إن الله اصطفى كِنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشًا من كنانة ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم . فهو صلى الله عليه وسلم من قريش ، وقريش من العرب ، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام .
المبحث الثاني
نشأته صلى الله عليه وسلم
نشأ النبي صلى الله عليه وسلم يتيمًا فآواه الله تعالى ، وعائلًا فأغناه الله ، فقد تُوفِّي والده عبد الله وهو صلى الله عليه وسلم حملٌ في بطن أمه ، وأرضعته ثُويْبَةُ أيَّامًا وهي مولاة لأبي لهبٍ ، ثم أرضعته حليمة السعدية في البريَّة ، وأقام عندها في بني سعدٍ نحوًا من أربع سنين ، وَشُقَّ عن فُؤاده هناك وهو يلعب مع الغلمان ، فعن أنس رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان ، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه ، فاستخرج القلب فاستخرج منه علقةً فقال : هذا حظ الشيطان منك ، ثم غسله في طستٍ من ذهب بماء زمزم ثم لامَهُ ثم أعاده في مكانه ، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه ( يعني ظئره ) فقالوا : إن محمدًا قد قُتِلَ ، فاستقبلوه وهو مُنتقع اللَّون قال أنسٌ : وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره وعند هذه الحادثة العظيمة خافت عليه حليمة السعدية رضي الله عنها ، فردَّته إلى أمه آمنة بنت وهب ، فخرجت به أمه إلى المدينة ، تزور أخواله ، ثم رجعت متجهة إلى مكة فماتت في الطريق بالأبواء ، بين مكة والمدينة ، وعمره صلى الله عليه وسلم ست سنين وثلاثة أشهر وعشرة أيام ولما ماتت أمه كفله جده عبد المطلب ، فلما بلغ ثماني سنين توفي جده وأوصى به إلى عمه أبي طالب ؛ لأنه كان شقيق عبد الله بن عبد المطلب فكفله ، وأحاطه أتمَّ حياطة ، ونصره حين بعثه الله ، أعزَّ نصرٍ ، مع أنه كان مستمرًا على شركه إلى أن مات ، فخفَّفَ الله بذلك من عذابه بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ، قال صلى الله عليه وسلم : هو في ضحْضاحٍ من النار ، ولولا أنا لكان في الدَّرْكِ الأسفلِ من النار . وفي لفظٍ : لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامةِ فيُجعلُ في ضحْضاحٍ من النارِ يبلغ كعبَيه ، يغلي منه دِمَاغُه
خروجه صلي الله عليه وسلم مع عمه لتجارة
وخرج مع عمِّه أبي طالب إلى الشام في تجارةٍ ، وهو ابن ثنتي عشرة سنة ، وذلك من تمام لطفه به ؛ لعدم من يقوم به إذا تركه بمكة ، فَرَأَى عبد المطلب وأصحابه ممن خرج معه إلى الشام من الآيات فيه صلى الله عليه وسلم ما زاد عمَّه في الوصاة بِهِ ، والحرص عليه ، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : خرج أبو طالب إلى الشام ، وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخٍ من قريشٍ ، فلما أشرفوا على الراهب هبطُوا فحلُّوا رحالهم ، فخرج إليهم الرَّاهبُ ، وكانوا قبل ذلك يمرُّون به فلا يخرج إليهم ، ولا يلتفتُ ، قال : فهم يحلُّون رِحالهم فجعل يتخلَّلهم الراهب حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : "هذا سيدُ العالَـمِين ، هذا رسولُ ربِّ العالمين ، يبعثه الله رحمةً للعالمين ، فقال له أشياخٌ من قريش ما علمك ؟ فقال : إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبقَ شجرٌ ولا حجرٌ إلا خرَّ ساجدًا ، ولا يسجدان إلا لنبي ، وإنِّي أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروفِ كتفهِ مثل التُّفَّاحة . . . الحديث ، وفيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم أظلته غمامةٌ ومالت الشجرة بظلها عليه وأمر الراهب أبا طالب بالرجوع به إلى مكة ؛ لئلا يراه اليهود ؛ فيحصل له منهم سوء ، فأرسل به عمه إلى مكة ، ث خديجة بنت خويلد في تجارةٍ لها إلى الشام مع غلامها ميسرة ، فربحت تجارة خديجة رضي الله عنها ، فرأى ميسرة ما بهره من شأنه ، فرجع فأخبر سيدته بما رأى ، فرغبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها ، لِـمَا رجَتْ في ذلك من الخير الذي جمعه الله لها ، وفوق ما يخطر بِبَالِ بشر ، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وله من العمر خمس وعشرون سنة ، وكان عمرُ خديجة أربعون سنة
حماية الله تعالى له صلى الله عليه وسلم من دنس الجاهلية
وقد حماه الله تعالى من صغره من دنس الجاهلية ، ومن كلِّ عيب ، فلم يُعظِّم لهم صنمًا في عمره قط ، ولم يحضر مشهدا ًمن مشاهد كفرهم ، وكانوا يطلبونه بذلك فيمتنع ، ويعصمه الله من ذلك ، وما شرب خمرًا قط ، وما عمل فاحشة قط ، وكان يعلم بأنهم على باطل ، ولم يشرك بالله قطٌّ ، ولم يحضر مجلس لهوٍ ولم يعمل شيئًا مما كان يعمله قومه من الفواحش والمنكرات ، فقد نشأ في مجتمعٍ كَثُرت فيه المفاسد وعمت فيه الرذائل ، فالشرك بالله تعالى ، ودعاء غيره معه ، وقتل الأنفس بغير حق ، والظلم ، والبغاء ، والاستبضاع ، والزنى الجماعي ، والأفرادي ، ونكاح أسبق الرجال ممن مات زوجها ، والاعتداء على الأعراض ، والأموال ، والدماء ، كل ذلك كان شائعًا في قومه قبل الإسلام ، لا ينكره أحد ، ولا تحاربه جماعة ، بالإضافة إلى وَأْدِ البناتِ ، وقتل الأولاد خشية الفقر ، أو العار ، ولعب الميسر ، وشرب الخمر ، أمور تعدُّ في الجاهلية من المفاخر ، والتباهي ، وليس من شرط أن يكون المجتمع كلُّه يرتكب هذه الجرائم ، وإنما عدم إنكارها هو دليل على الرضى بها ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يعمل أي عمل أو يباشر أيَّ خُلقٍ من هذه الأخلاق الرذيلة ، وقد أدَّبه ربُّهُ فأحسن تأديبه وهذه الأخلاق التي اتصف بها قد عرفها قومه منه ؛ ولهذا لُقِّب بين قومه " بمحمدٍ الأمين" .
وقد بنت قريش الكعبة في سنة خمس وثلاثين من عمر النبي صلى الله عليه وسلم ، وعندما وصلوا إلى موضع الحجر الأسود اختلفوا ، واشتجروا فيمن يضع الحجر الأسود موضعه ، فقالت كلُّ قبيلةٍ : نحن نضعه ، ثم اتفقوا على أن يضعه أَوَّلُ داخلٍ عليهم ، فكان أول من دخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففرِحوا به كثيرًا ، فقالوا : جاء الأمين ، فرضوا به أن يكون حكمًا بينهم ؛ ليحلَّ النزاع ويقف القتال الذي كاد أن يحصل ، فأمر صلى الله عليه وسلم بثوبٍ فَوُضِعَ الحجر في وسطه ، وأمر كلَّ قبيلة أن ترفع بجانب من جوانب الثوب ، ثم أخذ الحجر فوضعه بيديه في موضعه صلى الله عليه وسلم .
وبعد ذلك حبب الله إليه الخلوة والانعزال عن الناس ؛ لكي يتعبد لله تعالى ، وكان يخلو بغار حراء يتعبد لله تعالى على ملة إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، ولما كمَّل الأربعين أكرمه الله تعالى بالنبوَّة ، ولا خلاف أن مبعثه كان يوم الإثنين ، وقيل بأن الشهر كان ربيع الأول سنة إحدى وأربعين لثمانٍ خلون منه ، من عام الفيل وهذا قول الأكثرين
وجاءه جبريل في غار حراء ، فقال له : اقرأ ، فقال : "لست بقارئ" ، قال : اقرأ ، قال : "لست بقارئ" ، فغتَّه حتى بلغ منه الجهد ، فقال له : اقرأ ، فقال : "لست بقارئ" فقال : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ، وبهذه السورة كان صلى الله عليه وسلم نبيًّا ، ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى خديجة رضي الله عنها يرجفُ فؤادُهُ فدخل عليها وقال : "زملوني زمِّلوني" ، فزمَّلوه حتى ذهب عنه الرَّوعُ ، فأخبر خديجة الخبر ، فقالت خديجة رضي الله عنها : كلا واللهِ ما يُخزيك اللهُ أبدًا ؛ إنك لتصل الرحم ، وتحمِل الكلَّ ، وتكسِب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعينُ على نوائب الحق . . . الحديث ثم أرسله الله تعالى بسورة المدثر إلى الإنس والجن ، قال صلى الله عليه وسلم : بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتًا من السماء فرفعتُ بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرُعبْتُ منه ، فرجعت فقلت زمِّلوني ، فأنزل الله تعالى : يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ إلى قوله وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ فحميَ الوحيُ وتتابع وبهذه السورة كان رسولًا صلى الله عليه وسلم .
بدأ صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله تعالى سرًا ، فأسلم على يديه : السابقون الأولون ، وكان أول من أسلم خديجة رضي الله عنها ، ثم علي ثم زيد بن حارثة ، ثم أبو بكر رضي الله عنهم ، ثم دخل الناس في دين الله واحد بعد واحد ، حتى فشى الإسلام في مكة ، ثم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يجهر بالدعوة فقال : وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ، فدعاهم إلى الله ، وصعد على الصفا وقال : يا بني فهر ، يا بني عدي لبطون قريش ، حتى اجتمعوا ، فقال : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا تخرج عليكم بسفح هذا الوادي أكنتم مصدقي ؟ " قالوا : نعم ما جرَّبنا عليك كذبًا ، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذابٍ شديد وقد ناصبه صناديد قريش ومن معهم العداء ، ولكن مع ذلك لم يستطع أحد منهم أن يتهمه بصفة الكذب أو صفة غير لائقة ، وقد قال الله تعالى : فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ، ولو عرفوا خُلُقًا ذميمًا - وقد عاش بينهم أربعين عامًا - ؛ لأراحهم من التنقيب عن خصلة غير حميدة يتهمونه بها أمام الناس ، ووجدوا أن كلمة ( ساحر ) و ( كاهن ) هي أنسب الصفات التي يطلقونها عليه ؛ حيث يفرق بدعوته إلى الله بين الأب وابنه ، والأخ وأخيه ، والزوجة وزوجها ، واتهموه بالجنون ؛ لأنه خالف شركهم ودعا إلى عبادة الله وحده ، وتابع دعوته إلى الله في المواسم ، والأسواق ، وخرج إلى الطائف ، وأسلم الجن في طريقه عند رجوعه من الطائف ، وحصل له من الأذى الكثير فصبر واحتسب
. ثم أُسريَ به إلى بيت المقدس ليلًا وعُرِج به إلى السماوات العُلى ، وقبل الإسراء جاء جبريلُ ففرج صدره ثم غسله بماء زمزم ، ثم جاء بطستٍ ممتلئ حكمة وإيمانًا فأفرغه في صدره ، ثم أطبقه ، ثم أخذ بيده فَعُرِج به وذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم شُقَّ صدره ثلاث مرات ، الأولى في بني سعد وهو صغير ، والثانية عند البعثة فقال : ( وثبت شق الصدر أيضًا عند البعثة كما أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوَّة ، فالأول وقع فيه من الزيادة كما عند مسلم من حديث أنس : فأخرج علقة فقال : هذا حظ الشيطان منك ، وكان هذا في زمن الطفولية فنشأ على أكمل الأحوال ، من العصمة من الشيطان ، ثم وقع شق الصدر عند البعث زيادة في إكرامه ؛ ليتلقى ما يُوحى إليه بقلبٍ قويٍّ في أكمل الأحوال من التطهير ، ثم وقع شق الصدر عند العروج إلى السماء ؛ ليتأهب للمناجاة ، ويحتمل أن تكون الحكمة في هذا الغسل لتقع المبالغة في الإسباغ بحصول المرة الثالثة كما تقرر في شرعه صلى الله عليه وسلم .
وصل ليلة الإسراء والمعراج إلى مكان يسمع فيه صريف الأقلام فوق السماء السابعة ، وفرضت عليه الصلاة ، وصلى بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ركعتين ، ورجع قبل أن يصبح إلى مكة ، واستمر في دعوته إلى التوحيد ، وصلَّى في مكة قبل الهجرة ثلاث سنين ، ولما اشتد الأذى من قريش ، وأكمل ثلاثة عشر عامًا في دعوته قومه إلى التوحيد ، أَذِنَ الله له بالهجرة ، فهاجر إلى المدينة ، وفرضت عليه فيها بقية شرائع الإسلام خلال عشر سنواتٍ ، كما تقدم ، وسيأتي إتمام الكلام في صبره صلى الله عليه وسلم على أذى قومه ، وفي غزواته ، وجهاده ، وحجِّه حجة الوداع ، ورجوعه إلى المدينة ، ثم موته بعد أن كمَّل الله به الدين صلى الله عليه وسلم[/center]