السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
درس النحو الأول:
إن الحمد لله تعالى نحمده و نستعينه و نستهديه و نستغفره و نعوذ بالله جل و علا من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا انه من يهده الله فلا مظل له و من يظلل فلا هادي له و اشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له و اشهد أن محمدا صلى الله عليه و سلم عبده، صلى عليه ربه و صلت عليه ملائكته و أمرنا بالصلاة و التسليم عليه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (الأحزاب-56) فصلاة و سلام متلازمان عليك يا حبيبي يا رسول الله ما اتصلت عين بنظر و أذن بخبر، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته و لا تموتن إلا و انتم مسلمون يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة و خلق منها زوجها و بث منهما رجالا كثيرا و نساء و اتقوا الله الذي تساءلون به و الأرحام إن الله كان عليكم رقيبا يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و قولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم و يغفر لكم ذنوبكم و من يطع الله و رسوله فقد فاز فوزا عظيما.
أما بعد،
فإن أصدق الحديث كتاب الله و خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه و سلم و إن شر الأمور محدثاتها و كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة و كل ضلالة في النار.
أحبتي في الله، في بداية منهجنا إن شاء الله المبارك في معهدكم أرحب بكم ترحيبا خاصا فحياكم الله جميعا و طبتم و طاب وجودكم و تبوأتم جميعا من الجنة منزلا.
فأهلا و سهلا و السلام عليكم تحية منا تزف إليكم أحبابنا إخواننا ما أجمل الدنيا بكم. لا تقبح الدنيا و فيها أنتم فإليكم سلام من حنايانا و نسرين و ريحان.
أما بعد، فقبل أن نبدأ إن شاء الله تعالى في سرد المحاضرة نقول بأنها ستنتظم تحت هذه النقاط:
-مقدمة
-حكم تعلم العربية و أقوال أهل العلم في ذلك
-موقف السلف من تعلم اللغة
-مكانة النحو من اللغة و أقوال بعض أهل العلم و السلف في ذلك
نبدأ و الله الموفق.
-مقدمة:
قال الله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (يوسف-2)
إن الله قد تختار لدينه أسمى اللغات التي بها تجتلب أوضح البيانات و أفصح البلاغات و لا شك و لا مرية في أن اللغة العربية تنزل من علوم الإسلام و معارفه منزلة اللسان من جوارح الإنسان بل منزلة القلب من الجسد لأنها لسان الإسلام الأسمى، بها أنزل القرآن الكريم و بها تكلم النبي العظيم صلى الله عليه و سلم.
و إذا قررنا أن خزانة الفكر الإنساني هي اللغة فان خزانة العربية قد ادخرت من نفيس البيان الصحيح عن الفكر الإنساني بل و البشرية كلها ما يعجز سائر اللغات.
فقد ظلت تنحدر من نفوس مختارة بريئة من الخسائس المزرية و من العلل الغالبة و ازدادت شرفا و صفاء حين جاء سيدنا إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة و السلام فسارت في النصاعة و البراءة حتى أقل زمان نبي لا ينطق عن الهوى فانزل الله بها كتابه بلسان عربي مبين بلا رمز مبني على الخرافات و الأوهام و لا ادعاء لما لم يكن و لا نسبة إلى الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
قال الله جل و علا في وصفه لكتابه الكريم: قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (الزمر-28)
فوصفه بالاستقامة. كما وصفه بالبيان في قوله: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (الشعراء-195)
و وصفه بالعدل في قوله: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (الرعد-37)
-حكم تعلم العربية:
قال في ذلك شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى/كتاب النكاح/: ومعلوم أن تعلم العربية وتعليم العربية فرض على الكفاية، وكان السلف يؤدبون أولادهم على اللحن، فنحن مأمورون أمر إيجاب أو أمر استحباب أن نحفظ القانون العربي، ونصلح الألسن المائلة عنه، فيحفظ لنا طريقة فهم الكتاب والسنة، والاقتداء بالعرب في خطابها. فلو ترك الناس على لحنهم كان نقصا وعيبا.
و نقل شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم/فصل (في الأعياد) موافقتهم في أعيادهم لا تجوز من طريقين ص 518/ عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى كراهة الرطانة و تسمية الشهور بالأسماء الأعجمية.
وورد عن الإمام أحمد كذلك كراهة أن يتعود الرجل النطق بغير العربية.
ثم قال شيخ الإسلام في نفس المصدر أن اللسان العربي شعار الإسلام و أهله، و اللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون، و لهذا كان كثير من الفقهاء أو أكثرهم يكرهون الأدعية، التي في الصلاة و الذكر، أن يدعى الله أو يذكر بغير العربية.
و قال ابن كثير في تفسيره، رحمه الله للآية 2 من سورة يوسف { إِنَّا أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس؛ فلهذا أنزلَ أشرف الكتب بأشراف اللغات، على أشرف الرسل...إلى آخر كلامه رحمه الله.
و قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله كذلك في اقتضاء الصراط المستقيم/ فصل (في الأعياد) موافقتهم في أعيادهم لا تجوز من طريقين ص 450/ أن الله تعالى لما أنزل كتابه باللسان العربي، وجعل رسوله مبلغاً عنه للكتاب والحكمة بلسانه العربي، وجعل السابقين إلى هذا الدين متكلمين به، لم يكن سبيل إلى ضبط الدين ومعرفته إلا بضبط اللسان، وصارت معرفته من الدين، وصار اعتبار التكلم به أسهل على أهل الدين في معرفة دين الله، وأقرب إلى إقامة شعائر الدين، وأقرب إلى مشابهتهم للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، في جميع أمورهم. انتهى كلامه.
و في كتاب الإيضاح في علل النحو للزجاجي /ص 94 إلى 96/ قال:
قال أبو إسحاق الزجاج سمعت أبى العباس المبرد يقول: كان بعض السلف يقول، عليكم بالعربية فإنها المروءة الظاهرة و هي كلام الله عز و جل و أنبيائه و ملائكته...إلى آخر كلامه رحمه الله.
و قال مصطفى صادق الرافعي رحمه الله في موضع: ما ذلت لغة شعب إلا ذل و لا انحطت إلا كان أمره في ذهاب و إكبار، و من هذا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضا على الأمة المستعمرة و يركبهم بها و يشعرهم عظمته فيها و يستلحقهم من ناحيتها فيحكم عليهم أحكاما ثلاثة في عمل واحد:
-1/ حبس لغتهم في لغته سجنا مؤبدا
-2/ الحكم على ماضيهم بالقتل محوا و نسيانا. *و هذا هو أهم سبب جعلني أنقل هذا النقل لكم.
-3/ تقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها، فأمرهم من بعدها لأمره تبع.
و قال الشافعي رحمه الله تعالى: إن المسلم عليه أن يكون تبعا فيم افترض عليه و ندب إليه لا متبوعا. أي على كل مسلم أن يتعلم من لغة العرب ما يكون به على أصل ما جاء به النبي صلى الله عليه و سلم لا أن يظل على لغته هو و عرف قومه و اصطلاحهم و لهجتهم و أن يتبع لغة العرب التي جاء بها القرآن و سنة النبي صلى الله عليه و سلم فيكون بذلك متبوعا. فان تركت الأمة لغة الكتاب إلى غير لغة مما يعتد به فاعلم أنها أصبحت امة لا شخصية لها و عدها من الموتى بل و كبر عليها أربعا.
قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله /اقتضاء الصراط المستقيم ص 204/ : اعلم أن اعتبار اللغة يؤثر في العقل و الخلق و الدين تأثيرا قويا بينا، و يؤثر أيضا في مشابهو صدر هذه الأمة من الصحابة و التابعين، و مشابهتهم تزيد العقل و الدين و الخلق.
و قال الرافعي رحمه الله: اللغة هي صورة وجود الأمة بأفكارها و معانيها و حقائق نفوسها وجودا متميزا بخصائصه. فهي قومية الفكر تتحد بها الأمة في صور التفكير و أساليب أخذ المعنى من المادة.
و قال أيضا: و هو إذا انقطع من نسب لغته انقطع من نسب ماضيه فليس كاللغة نسب للعاطفة و الفكر. حتى أن أبناء الأب الواحد لو اختلفت ألسنتهم فنشا منهم ناشئ على لغة و نشا الثاني على أخرى و الثالث على لغة ثالثة لكانوا في العاطفة كأبناء ثلاثة آباء.
و كان علماء الأمة رحمهم الله في صدرها الأول على وعي كامل بأثر اللغة في تكوين الأمة و خطرها في جميع شخصية المسلم. و لذلك حرصوا حرصا شديدا على لغة القرآن و السنة و شددوا النكير على من حاد عنها إلى غيرها و استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.
و لهذا نقول: ينبغي لكل احد يقدر على تعلم العربية أن يتعلمها لأنها اللسان الأولى بأن يكون مرغوبا فيه من غير أن يحرم على أحد أن ينطق بالعجمية.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: فقد كره الشافعي لمن يعرف العربية أن يسمي بغيرها و أن يتكلم بها خالطا إياها بالعجمية و هذا الذي ذكره الشيخ قاله الأئمة مأثورا عن الصحابة و التابعين.
و قال رحمه الله في موضع آخر: و مازال السلف يكرهون تغيير شعائر العرب حتى في المعاملات و هو التكلم بغير العربية إلا لحاجة كما نص على ذلك مالك و الشافعي و احمد.
بل و قال مالك: من تكلم في مسجدنا بغير العربية أخرج منه.
مع أن سائر الألسن يجوز النطق بها لأصحابها و لكن سوغوها للحاجة و كرهوها لغير الحاجة.
و لحفظ الإسلام فان الله أنزل كتابه باللسان العربي و بعث به نبيه العربي و جعل الأمة العربية خير الأمم، فصار حفظ شعائره من تمام حفظ الإسلام فكيف بمن تقدم على الكلام العربي مفرده و منظومه، يغيره و يبدله و يخرجه عن قانونه و يكلف الانتقال عنه.
قال شيخ الإسلام: و اعتياد الخطاب بغير العربية التي هي شعار الإسلام و لغة أهل القرآن حتى يصير ذلك عادة للمسلم و لأهله و لأهل الدار و للرجل مع صاحبه و لأهل السوق أو الأمراء أو لأهل الديوان أو لأهل الفقه فلا ريب أن هذا مكروه فانه من التشبه بالأعاجم.**
**و هذه النقطة في غاية الأهمية لما نراه في كل أمصارنا من ذلك و لله المشتكى.
و هذه رسالة انقلها و ابعثها إلى كل المنتسبين إلى العربية و يهملون أمرها و لا يدرسون نحوها و تصريفها و يجهلون معربها من مبنيها و لا يدركون شيئا من بلاغتها و لا أدبها.
هذه الرسالة كتبها مطران قرطبة لعام 854 للميلاد لأحد أصدقائه يقول:من الذي يعكف اليوم بين أتباعنا من المؤمنين على دراسة الكتب المقدسة أو يرجع إلى كتاب أي عالم من علمائنا ممن كتبوا في اللغة اللاتينية منهم من يدرس الإنجيل أو الأنبياء أو الرسل؟ إننا لا نرى غير شبان مسيحيين هاموا حبا باللغة العربية يبحثون عن كتبها و يتقنونها و يدرسونها في شغف و يعلقون عليها و يتحدثون بها في طلاقة و يكتبون بها في جمال و بلاغة و يقولون فيها الشعر في رقة و أناقة.
يا للحزن، مسيحيون يجهلون كتابهم و قانونهم و لاتينيتهم و ينسون لغتهم نفسها و لا يكاد الواحد منهم يستطيع أن يكتب رسالة معقولة لأخيه مسلما عليه و تستطيع أن تجد جمعا لا يحصى يظهر تفوقه و قدرته و تمكنه من اللغة العربية.
كان هذا كلام المطران يصف فيه حال النصارى في أيامه.
و كان العرب يفرون من الوقوع في اللحن و يحثون على تعلم العربية، فحري بطالب العلم أن يتعلم قواعد الكلام العربي و أن يفر من أن يلحن كلامه.
و قد عقد ابن عبد البر رحمه الله في أول كتابه بهجة المجالس و انس المجالس 1/64 بابا في اجتناب اللحن و تعلم العربية و ذم الغريب من الخطاب و أورد فيه أخبارا و أشعارا حول هذا الأمر و صدره بقول عمر رضي الله عنه حينما كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: أما بعد، فتفقهوا في السنة و تعلموا العربية و أعربوا القرآن فانه عربي.
و روى أبو شيبة عن عمر أيضا انه قال: تعلموا العربية فإنها من دينكم و تعلموا الفرائض أيضا فإنها من دينكم.
و روى الخطيب البغدادي رحمه الله في كتابه الجامع لأخلاق الراوي و آداب السامع أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: تعلموا العربية فإنها تثبت العقول و تزيد في المروءة. /كذلك في كتاب تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص 225/
و قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله في اقتضاء الصراط المستقيم: و هذا الذي أمر به عمر رضي الله عنه من فقه العربية و فقه الشريعة يجمع ما يحتاج إليه لان الدين فيه أقوال و أعمال، و فقه العربية هو الطريق إلى فهم أقواله و فقه السنة هو فقه أعماله.
و روى ابن أبي شيبة أيضا في مصنفه عن ابن عمر رضي الله عنهما انه كان يضرب ولده على اللحن.
و روى أيضا عن أبي ابن كعب انه قال: تعلموا العربية كما تعلمون القرآن.
و روى أيضا عن ابن عمر انه قال: أعربوا القرآن فانه عربي.
-مكانة النحو من اللغة:
نقول: لا شك أن من دعامة العلوم العربية و قانونها الأعلى الذي منه تستمد العون و تستلهم القصد و ترجع إليه في جميع مسائلها و فروع تشريعها هو علم النحو. و العلوم النقلية على عظيم شأنها لا سبيل إلى استخلاص حقائقها و النفاذ إلى أسرارها بغير هذا العلم، فهل ندرك كلام الله تعالى و نفهم دقائق التفسير و أحاديث الرسول عليه الصلاة و السلام و أصول العقائد و أدلة الأحكام و ما يتبع ذلك من مسائل فقهية و بحوث شرعية مختلفة قد ترقى بصاحبها إلى مراتب الأئمة و تسمو به إلى منازل المجتهدين إلا بالهام النحو و إرساله /إطلاق بغير تقييد/؟
و لذلك أجمع الأئمة من السلف و الخلف قاطبة على أن النحو شرط في رتبة الاجتهاد و أن المجتهد لو جمع كل العلوم لن يبلغ رتبة الاجتهاد حتى يعلم النحو فيعرف به المعاني التي لا سبيل لمعرفتها بغيره فرتبة الاجتهاد متوقفة عليه لا تتم إلا به.
فعلم النحو من أسمى العلوم قدرا و انفعها أثرا، به يتثقف أود اللسان و يسلس عنان البيان و قيمة المرء فيم تحت طي لسانه لا طيلسانه و لا يمكن إن يستغني عن علم النحو إلا الأخرس الذي لا يفصح بحرف واحد. و قد ورد عن سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى آثار كثيرة تحث على تعلم النحو أورد منها الخطيب البغدادي رحمه الله طرفا في كتابه الجامع لأخلاق الراوي و آداب السامع و بوب عليها رحمه الله بقوله، الترغيب في تعلم النحو و العربية لأداء الحديث بالعبارة السوية/اسم الباب
قال الرحبي: إذا كتب لحان فكتب عنه لحان آخر صار الحديث بالفارسية.
و أقول قد صدق أو بغير الفارسية من اللغات.
و قال الخطيب البغدادي: ينبغي للمحدث أن يتقي اللحن في روايته للعلة التي ذكرناها و لن يقدر على ذلك إلا بعد دراسة النحو و مطالعته علم العربية.
و فيه أي في الجامع لأخلاق الراوي قال عياش بن المغيرة بن عبد الرحمن عن أبيه، قال: جاء الدراوردي و يعني عبد العزيز بن محمد إلى أبي يعرض عليه الحديث فجعل يقرأ و يلحن لحنا منكرا، فقال له أبي: ويحك يا دراوردي، أنت كنت بإقامة لسانك قبل هذا الشأن أحرى. يعني قبل أن تطلب الحديث قوم لسانك.
و منه نفهم ضرورة تعلم اللغة بكل علومها و فنونها قبل التعرض لتعلم الدين صونا لكلام الله عز و جل و كلام رسوله صلى الله عليه و سلم و حفظا لأحكام شريعته.
و كان في سلفنا ما يدعو إلى ذلك و يدل عليه.
و فيه أيضا قال حاجب بن سليمان : سمعت وكيعا يقول: أتيت الأعمش و كنت أسمع الحديث و كنت ربما لحنت و وكيع معروف إمام فقال لي: يا أبا سفيان، تركتَ ما هو أَوْلَى بكَ من الحديث فقلتُ يا أبا محمد، وأي شيء أَوْلَى منَ الحديث؟ قال: النَّحو. فأَمْلَى عليَّ الأعمشُ النَّحوَ، ثُمَّ أملى عليَّ الحديث.
إن من لا يجيد النحو على خطر عظيم و قد يذهب بجهله إلى المحرم أو يصل إلى الشرك دون أن يشعر، فقد يقرأ *إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (فاطر-28)*/بفتح آخر لفظ الجلالة و ضم آخر العلماء/ و لا يدري من الخاشي و من المخشي منه حتى يسمعها السامع فيسقط مغشيا عليه.
أو يقرا *وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (البقرة-124)*/بفتح آخر إبراهيم و ضم آخر لفظ الجلالة/ و لا يدري من المبتلى و من المبتلي حتى يزيد في السوء و بما فيه من الجهل يبتلي.
و قال الأصمعي رحمه الله /كتاب تهذيب الكمال و سير أعلام النبلاء/: إن أخوف ما أخاف على طالب العلم إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قوله صلى الله عليه و سلم *"من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار"./متفق عليه/ نعوذ بالله من ذلك.
و قال أبو الفتح بن الجني: إن أكثر من ظل من أهل الشريعة عن القصد فيها و حاد عن الطريقة المثلى إليها، فإنما استهواه و استخف حلمه ضعفه في هذه اللغة العربية الشريفة التي خوطب الكافة بها.
و قال عبد الله بن المبارك رحمه الله/في كتاب بهجة المجالس/: اللحن في الكلام أقبح من آثار الجدري في الوجه. /أعزنا الله و عافانا و إياكم.
و قال الزهري رحمه الله: ما احدث الناس مروءة أحب إلي من تعلم النحو.
و قال الشافعي رحمه الله : من تبحر في النحو اهتدى إلى كل العلوم.
و قال أيضا رحمه الله: لا أسأل عن مسالة من مسائل الفقه إلا أجبت عنها بالنحو
و قال كذلك: ما أردت بها، و يعني العربية، إلا الاستعانة على الفقه
و في معجم الأدباء للحموي: حدث النضر بن شميل قال: اخبرنا الخليل بن احمد قال: سمعت أيوب السختياني يحث بحديث فلحن فيه، فقال استغفر الله أي انه عد اللحن ذنبا.
و حدث في ذلك أيضا أبو العيناء عن وهب بن جرير انه قال لفتى من باهلة: يا بني اطلب النحو فانك لن تعلم منه بابا إلا تدرعت من الجمال سربالا.
و فيه أيضا عن سعيد بن سلم قال: دخلت على الرشيد فبهرني هيبة و جمالا، فلما لحن خف في عيني.
و قال على هذا قول الشاعر:
يعجبني زي الفتى و جماله فيسقط من عيني ساعة يلحن
و فيه أيضا عن الشعبي قال:
حلي الرجال العربية و حلي النساء الشحم
و فيه أيضا قال رجل لبنيه: يا بني أصلحوا ألسنتكم فان الرجل تنوبه النائبة يحتاج أن يتجمل فيها فيستعير من أخيه دابة و من صديقه ثوبا و لا يجد من يعيره لسانا.
فهذه جملة من الآثار الواردة عن سلفنا الصالح رحمهم الله تبين عنايتهم البالغة باللغة و كيف أنها كانت أهم وسيلة عندهم لتعلم دينهم.
و نحن مأمورون باقتفاء آثارهم و الاهتداء بمنارهم ففيهم و في سلوك سبيلهم الخير كله.
و مازال الأمر حتى يومنا هذا، فهاهو الشيخ بن عثيمين رحمه الله ينادي بضرورة تعلم النحو. فقد ذكر رحمه الله في مقدمة شرحه لكتاب نزهة النظر: إن علم النحو أهم من علم الحديث من وجه.
و كلنا يعلم ما لعلم الحديث من أهمية، إذ هو الطريق لمعرفة ما صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم من أحاديث حتى يتعبد لله بها.
كذلك أورد أبو بكر محمد بن عبد الله الشنتريني قصيدتين تبينان أهمية تعلم علم النحو في فصل من كتابه تنبيه الألباب على فضائل الإعراب، نذكر إحداهما إن شاء الله بحوله و قوته.
القصيدة الأولى لأبي إسحاق بن خلف المعروف بان الطيب و فيها:
النحو يبسط من لسان الألكن و المرء تعظمه إذا لم يلحن
فإذا طلبت من العلوم أجلها فأجلها منها مقيم الألسن
لحن الشريف يزيله عن قدره و تراه يسقط من لحاظ الأعين
و ترى الوضيع إذا تكلم معربا نال المهابة باللسان الأحسن
فاطلب هديت و لا تكن متأبيا فالنحو زين العالم المتفنن
فالنحو مثل الملح إن ألقيته في كل صنف من طعام يحسن
و قال آخر:
أيا حبذا النحو من مطلب تعالا به قدر طلابه
كان العلوم له عسكر وقوف خضوع على بابه
و قال شاعر واصفا النحو/ معجم الأدباء لياقوت الحموي و كذلك في الجامع لأخلاق الراوي و السامع:
اقتبس النحو فنعم المقتبس و النحو زين و جمال الملتمس
صاحبه مكرم حيث جلس من فاته فقد تعمى و انتكس
كأنما فيه من العي خرس شتان ما بين الحمار و الفرس
و إن من يحاول إقامة الدبيب على فضل النحو، كان كمن يتكلفه على إشراق الشمس و ضياء القمر.
تم الكلام و ربنا المحمود و له المكارم و العلا و الجود
ثم الصلاة على النبي محمد ما ناح قمري و أورق عود.