يؤمن المسلمون بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - إيماناً جازماً لا شك فيه ولا ريب، ويستندون في إيمانهم هذا إلى الكثير من الدلائل العقلية والنقلية التي تثبت نبوته، وتصحح رسالته .
من تلك الدلائل العقلية ظهور معجزاته – صلى الله عليه وسلم - كشق القمر، ونطق الحجر، وخروج الماء من بين أصابعه، وأكبر معجزاته - صلى الله عليه وسلم – وأعظمها القرآن الكريم بما فيه من إعجاز في نظمه ولفظه وخبره وتشريعه.
ومن الدلائل النقلية على نبوته - عليه الصلاة والسلام – ما بقي في كتب اليهود والنصارى من بشارات الأنبياء السابقين كإبراهيم وموسى وعيسى - عليهم السلام –، حيث افتخر - صلى الله عليه وسلم – بذلك، فقال: ( أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى ) رواه أحمد ، وأخبر القرآن الكريم أن أهل الكتاب المعاصرين لمحمد - صلى الله عليه وسلم - { يعرفونه كما يعرفون أبناءهم }(البقرة:146)، وذلك أنهم : { يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل }(الأعراف:157)، بل أخبر سبحانه أن من الغايات التي أرسل لأجلها عيسى - عليه السلام - البشارة بنبي الإسلام، قال تعالى: { ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد }(الصف:6)، إلا أن النصارى اليوم يقفون مما بقي من هذه البشارات موقف المنكر لها، الجاحد لوجودها، ويتأولونها تأويلات تلوي أعناقها، وتحرفها عن مقصودها .
وسنحاول مناقشتهم في بعض هذه البشارات، ليعلم المنصف أن خبر القرآن بوجود البشارات حق وصدق . وأن نفي النصارى لها، أو تحريفهم لفهمها أمر مردود عليه . كما سيتضح ذلك من خلال ذكر الأمثلة.
المثال الأول: البشارة بنبي الإسلام في التوراة
فمما يذكره العلماء في ذلك ما جاء في سفر التثنية – إصحاح 18 الفقرة: 18 : قول الرب لموسى - عليه السلام -: " أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به " فهذه النبوة تتحدث صراحة عن إرسال رسول جديد من غير تحديد اسمه، ولكن بذكر بعض أوصافه، ككونه مثل موسى – عليه السلام -، وكونه لا يتكلم من عند نفسه، ولكن بما يوحيه الله إليه .
ويعتقد النصارى أن هذه البشارة تنطبق على عيسى - عليه السلام – ويقولون: إن عيسى مثل موسى لكونه يهودي الأصل، يهودي الشريعة، وكونه من وسط اليهود وخيارهم، فهو من ذرية داود - عليه السلام –، وقد أوحى الله إليه بمواعظ وأمثال بلغها قومه، وعلمها تلاميذه .
ويجيب المسلمون عن ذلك بأن البشارة المذكورة لم تذكر اسماً معيناً فيصبح تعيينه نصاً لا يجوز الخروج عليه، وإنما ذكرت أوصافاً معينة لهذا النبي المبشر به، وهو ما يجعل باب الاجتهاد مفتوحاً في تفحص هذه الأوصاف، لمعرفة الأحق بها، وقد نظرنا في البشارة فوجدناها حوت عدة صفات للآتي، منها: أنه نبي وليس إلها، ومنها أنه مثل موسى، ومنها أنه من إخوة بني إسرائيل لا من أنفسهم، ومنها أنه يتكلم بما يوحى إليه . وقد عقد العلماء مقارنة بين محمد وعيسى – عليهما السلام – للتحقق أيهما أشد شبها بموسى - عليه السلام - فوجدوا أن شبه محمد بموسى – عليهما السلام – أقرب من شبه عيسى بموسى، وذلك من عدة أوجه:
الوجه الأول: أن محمد كموسى ولد من أب وأم، في حين أن عيسى ولد من أم من غير أب .
الوجه الثاني: أن محمداً وموسى – عليهما السلام – بعثا رسولين، وكان لكل منهما شريعة جديدة، في حين أن عيسى – عليه السلام – كان نبياً فقط، ولم يبعث بشرع جديد، بل كان يؤكد أنه ما جاء لينقض شريعة موسى (متى:17:5) .
الوجه الثالث: أن كلاً من محمد وموسى – عليهما السلام – كان حاكماً على قومه، قائداً لشعبه، في حين أن عيسى لم يمارس أي سلطة سياسية على قومه وأتباعه بل كان يردد أن مملكته ليست في هذا العالم ( يوحنا:36:18) .
الوجه الرابع: أن محمداً كموسى – عليهما السلام - مات ميتة طبيعية في حين يعتقد اليهود والنصارى أن المسيح – عليه السلام - مات مصلوباً مهاناً، ويعتقد المسلمون أنه رفع إلى السماء.
ولاشك أن هذه الفروق تظهر بجلاء تام أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - مثل موسى ولادة ورسالة وقيادة وموتاً في حين يختلف المسيح عنهما في ذلك، فكيف يقال أنه مثل موسى - عليهم جميعا صلوات الله وسلامه -.
وأما قول النصارى أن المسيح من بني إسرائيل ومحمدا ليس منهم، فصحيح ولكن البشارة تقول إن النبي الآتي سيكون من إخوة بني إسرائيل لا من أنفسهم، بمعنى أنه سيكون من غير بني إسرائيل، ومن المعلوم أن العرب العاربة هم أبناء عمومة مع بني إسرائيل، فإن إبراهيم رزق بإسماعيل أبو العرب العاربة، ورزق كذلك بإسحاق الذي ولد له يعقوب أبو الإسرائيليين، فقول الرب لموسى : " أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم" يدل على أنه ليس من بني إسرائيل، إذ لو أراد ذلك لقال من أنفسهم لا من إخوتهم، وهناك شواهد كثيرة من التوراة تدل على أن لفظ الإخوة يطلق على أبناء العم، فمن ذلك قول موسى لبني إسرائيل: " أنتم مارون بتخم إخوتكم بنو عيسو " (التثنية 2/4)، وعيسو الابن البكر لإسحاق - عليه السلام – فأطلق على أبنائه إخوتهم . فإن قيل لم لا يراد بإخوة بني إسرائيل في بشارة الرب لموسى بني عيسو وهو الروم، فالجواب أن الروم لم يظهر فيهم نبي في مقام عيسى - عليه السلام - فضلاً أن يكون في مقام موسى ومحمد - صلوات الله وسلامه عليهم – وهم مع ذلك لم يدعوا هذا الفضل لهم .
وأما قول النصارى بأن المراد من قول الرب لموسى: " وأجعل كلامي في فمه" الوحي الذي أوحاه الله لعيسى – عليه السلام – فيقال: وكذلك يمكن أن يقال ذلك في محمد - عليه الصلاة والسلام - فإن الله وصفه بأنه { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى }(النجم:3-4) وهو تعبير يشابه إلى حد كبير بشارة موسى – عليه السلام - .
وهذه المقاربة والمقارنة بين محمد والمسيح - عليهما السلام - إنما تصح بناء على اعتقاد المسلمين في المسيح - عليه السلام - بأنه عبدالله ورسوله، أما على اعتقاد النصارى بألوهية المسيح وربوبيته، فالمقارنة أبعد ما تكون، بل لا تصح البتة، فالبشارة الموسوية تقول: "يقيم لهم نبياً "، والنصارى يقولون: إن المسيح إله حق من إله حق، فهل يتخلى النصارى عن وصف المسيح بالألوهية حتى تنطبق عليه نبوة موسى ؟!!.
المثال الثاني: البشارة بنبي الإسلام في الإنجيل
أما النصوص التي يستدل بها العلماء على وجود البشارة بنبي الإسلام في الإنجيل فهي ما ورد في إنجيل يوحنا (14:16-17) على لسان المسيح - عليه السلام – أنه قال: " أنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيًا آخر، ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه، لأنه ماكث معكم ويكون فيكم ".
وجاء في إنجيل يوحنا (14: 25-26): "بهذا كلمتكم وأنا عندكم وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم".
وفي نفس الإنجيل أيضاً (15: 26-27): "ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لي، وتشهدون أنتم أيضاً لأنكم معي من الابتداء".
وفيه كذلك (16: 7- 11): " لكني أقول لكم الحق، إنه خير لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم، ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية، وعلى بر، وعلى دينونة، أما على خطية؛ فلأنهم لا يؤمنون بي، وأما على بر فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضاً، وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دِين، إن لي أمورًا كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية، ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم".
فهذه النصوص الكثيرة من إنجيل يوحنا توضح البشارة التي حملها المسيح عليه السلام بمقدم ومبعث نبي جديد، لا يتكلم من عند نفسه، بل يتكلم بما يوحى إليه، غير أن النصارى حملت هذه البشارات على مقدم نبي جديد، بل على "الروح القدس" واعتمدت في ذلك على أمور:
الأمر الأول: إنهم قالوا: إن الكلمة اليونانية محل البحث هي "IIAPAKAHTOE" و ليست ""IIEPIKAHTOE، وبالحروف الإفرنجية "PARACLETOS" (باراكليتس ) وليست "PERICLETOS" ( بركليتوس ) فالأولى معناها المُعزى، وهي التي نقلناه في النصوص السابقة، والثانية المشهور والمحمود .
الأمر الثاني: قالوا: إن المسيح وصف الباركليتس – وفق النصوص السابقة - بأنه لا يرى، وأنه يمكث إلى الأبد، وأنه يحل في التلاميذ، ولا شك أن محمداً بشر مرئي، وليس بمخلد، ولم يحل في التلاميذ .
الأمر الثالث: قالوا: إن المسيح قال : " ولكن إن ذهبت أرسله إليكم " فهل يعتقد المسلمون أن نبيهم رسول المسيح، وليس رسول الله .!!؟
الأمر الرابع: قالوا أن وعد المسيح لتلاميذه بإرسال المعزي، قد تحقق بحلول روح القدس عليهم، ففي أعمال الرسل: إصحاح 2/ 1- 4 : " ولما حضر يوم الخمسين كان الجميع معاً بنفس واحدة، وصار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة، وملأ كل البيت حيث كانوا جالسين، وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار، واستقرت على كل واحد منهم، وامتلأ الجميع من الروح القدس، وابتدؤوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا ".
الأمر الخامس: قالوا: إن المسيح وصف الآتي بعده بأنه روح، فقال: " روح الحق" ومن المعلوم أن نبي الإسلام كان بشراً ولم يكن روحاً.
وقبل الرد على دعاوى النصارى هذه يجب أن نذكّر بنقطة غاية في الأهمية، وهي أن اللغة التي كان يتحدث بها المسيح - عليه السلام - وتلاميذه هي الآرامية، واللغة التي كتب به الإنجيل الرابع "يوحنا" هي اليونانية، وبالتالي فنحن نتحدث عن ترجمة كلمة هي في الأساس مترجمة، وبالتالي فاحتمال الخطأ في ترجمتها من اللغة الأساسية " الآرامية" إلى اللغة " اليونانية" وارد، وقد ظل الأوربيون واللاتينيون ولقرون طويلة يكتبون اسم "Muhammad" على أنه "Mahomet" وأسم "Mushi" على أنه "Moses"، فهل من عجب أن يكون أحد الرهبان النصارى أو النساخين قد حرف اسم ( أحمد periqlytos ) "بيروكليت" إلى ( paraklytos ) الذي تفسره النصارى بالمعزي والمؤيد والمحامي .
وقد أوضح الدكتور عبد الأحد داود القس السابق الذي أسلم، أن الكلمة التي ورد بها الإنجيل هي "بيروكليت" وتعني الأكثر شهرة وحمداً، وهو ما ينطبق على اسم النبي محمد، وأوضح خطأ تفسير الكنيسة لكلمة ( paraklytos ) ب"المعزي والمؤيد" وأيد ذلك بأن ترجمة المعزي في اللغة اليونانية هي: ( باراكالون parakalon ) أو باريجوريتس (parygorytys ) المشتقة من ( أنا أعزي )، وأن كلمة ( بارا كالون parakalon ) تحمل أيضاً معنى ( الوسيط أو المحامى ).
هذا ما يتعلق بالرد على الوجه الأول من الوجوه التي ذكروها في بيان أن المراد بال"بيروكليت" - المعزي وفق ترجمتهم - هو الروح القدس لا نبي الإسلام - صلى الله عليه وسلم -.
أما الرد على بقية الوجوه، فنرى ضرورة الوقوف على الأوصاف التي وردت في النصوص السابقة من إنجيل يوحنا ودراستها لنستجلي من خلالها المقصود والمراد بها، هل هو الروح القدس حقاً ؟ أم أن المراد منها نبي الإسلام – عليه الصلاة والسلام- ؟ هذا مع غض النظر عن الاسم الوارد في البشارة هل هو "محمد أو أحمد" أو "المعزي والمؤيد والمحامي" فكل الألفاظ تصح في حقه، وتنطبق عليه – صلى الله عليه وسلم -، فهو محمد وأحمد، وهو المؤيد الذي أيد الله به دينه، ونشر به رسالته، وألغى به كل المعتقدات الفاسدة التي كانت في الأمم قبله، وهو المحامي الذي حمى الله به الدين الحق ودافع عنه، وهو المعزي الذي عزى البشرية في مصابها في دينها وأخلاقها، وأبدلها مكان الشرك توحيداً، ومكان الفساد أخلاقا ورفعة .
وما نراه الفيصل في معرفة المراد بال"بيروكليت" هو البحث في صفاته المذكورة في الكلام الوارد عن المسيح – عليه السلام -، ودراسة مدى انطباقها على نبي الإسلام كما يعتقد المسلمون، أو على الروح القدس كما يعتقد النصارى، والخروج بنتيجة موضوعية علمية تكون الحكم في هذا الاختلاف، وقد حاولنا حصر الأوصاف التي وصف بها المسيح ال"بيروكليت" فوجدناها ستة عشر وصفاً:
الوصف الأول: أنه يأتي بعد المسيح لا قبله، حيث قال – عليه السلام –: "لكني أقول لكم الحق، إنه خير لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي " ولا يخفى أن الروح القدس كان موجودا في حياة المسيح بل قبل المسيح، ففي إنجيل لوقا
إصحاح 1 فقرة 35 ): " فأجاب الملاك – مريم - وقد سألته كيف تحبل من غير زوج - وقال لها: "الروح القدس يحل عليك، و قوة العلي تظللك ". فكيف سيرسل المسيح الروح القدس إذن، إذا كان موجوداً من قبل ؟ فإن قيل: إنه سيرسله إرسالاً خاصا للتعزية بعد رفعه إلى السماء قيل إن تعزية الروح القدس للمؤمنين كانت قبل رفع المسيح أيضاً، فأي فائدة في أن يرسل المسيح الروح القدس للتعزية بعد ذلك، ففي إنجيل لوقا (إصحاح 2 فقرة 25) : " وكان رجل في أورشليم اسمه سمعان، وهذا الرجل كان بارا تقياً، ينتظر تعزية اسرائيل، والروح القدس كان عليه ". فإذا بطل مجيء "الروح القدس" بعد المسيح وبيان وجوده قبل ذلك فلا يصح أن يوصف بهذا الوصف، وصح أن الأحق بهذا الوصف هو نبي الإسلام – صلى الله عليه وسلم – والوصف بالبعدية جاءت به الآية الكريمة فنقل تعالى قول المسيح - عليه السلام – عن غاية بعثته فقال:{ ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد }(الصف:6).
الوصف الثاني: الحدوث وذلك أن مجيء ال"بيروكليت" بعد المسيح يدل على حدوثه وكونه بعد أن لم يكن، والروح القدس في معتقد النصارى إله حق من إله حق، وهو أحد أقانيم الألوهية عندهم، فكيف يصح أن يأتي بعد المسيح، في حين أن من المفترض أن يكون أزليا أبدياً .
الوصف الثالث: قول المسيح عن ال"بيروكليت" فهو يعلمكم كل شيء " وهذا الوصف يمكن أن يوصف به الروح القدس، فيكون روحاً ملهماً ومعلماً، غير أن الواقع غير ذلك، فلم يحفظ لنا الإنجيل أن الروح القدس كان يعلّم التلاميذ، ومن بعدهم كل شيء، بدليل أنه حدثت اختلافات كثيرة في النصرانية كادت تودي بها، لم يفصل فيها "الروح القدس"، ولم يعلم الأمة النصرانية وجه الحق فيها . بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم فقد علّم أمته كل شيء، حتى علمهم أدب الخلاء والجماع، فضلا عن أخبار الجنة والنار، وحوادث آخر الزمان، مما هو مستفيض ذكره في كتب السنة والأخبار .
الوصف الرابع: التذكير بما قاله المسيح – عليه السلام - حيث قال في وصف ال"بيروكليت": "ويذكركم بكل ما قلته لكم "، والروح القدس لم يذكّر التلاميذ، ولا من بعدهم من الأمة النصرانية، بكل ولا ببعض ما قاله المسيح، ولم يحفظ عنه شيء من ذلك، على خلاف ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - حين ذكر النصارى بعبودية المسيح لله، وأنه نبي من الأنبياء، وليس إلها، وأنه رفع إلى السماء ولم يصلب .
الوصف الخامس: وهو وصف فيه تنوع، وإن شئت قلت اضطراب، حيث وصف ال"بيروكليت" بأنه رسول الله " في قول المسيح:" أنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيًا آخر " ووصف بأنه رسول المسيح، في قوله " ولكن إن ذهبت أرسله إليكم "، ووصف بأنه رسول الله باسم المسيح، وذلك في قوله: "وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي"، ونحن أمام هذه الأوصاف الثلاثة إما أن نقول إن اختلاف الأوصاف يدل على اضطراب في النقل، فيسقط الاستدلال بها جميعاً، وإما أن نحاول الجمع بين هذه الأوصاف الثلاثة فنقول: إن وصف ال"بيروكليت" بكونه رسول الله لا إشكال فيه، أما وصفه بأنه رسول المسيح فعلى اعتبار أن المسيح بشّر به وطلب من الله إرساله، ووصفه بأنه "رسول باسم المسيح" فعلى اعتبار أنه سيبين دينه، وينفي عنه شوائب الشرك والبدع، فكأنه جاء باسمه لتخليص رسالته مما لحق بها . وقول النصارى إن وصف المسيح لل"بيروكليت" بأنه رسول المسيح يتنافى مع اعتقاد المسلمين أن محمداً رسول الله، وقد أجبنا عن ذلك سابقاً، ونزيد عليه بالقول: إنه كذلك يتنافى مع اعتقاد النصارى أن "الروح القدس" إله، إذ كيف يصبح الله رسول الله !!؟
الوصف السادس: أنه منبثق عن الله، وذلك في قول المسيح:"روح الحق الذي من عند الآب ينبثق" ومعنى الانبثاق لا يمكن تفسيره بمفرده بل بنظائره التي وردت في نفس السياق وهو الإرسال حيث عبر في بعض النصوص بالإرسال، واختلاف هذه الألفاظ لا يدل على اختلاف معناها بل على ترادفها، فيكون معنى الانبثاق والإرسال واحد، جمعا بين النصوص، وبالتالي يصح ويصدق هذا الوصف على محمد صلى الله عليه وسلم بأنه مرسل من عند الله سبحانه .
الوصف السابع: أنه يمكث إلى الأبد، وذلك في قول المسيح:" ليمكث معكم إلى الأبد" وهذا الوصف استدل به النصارى على استحالة حمل معنى ال"بيروكليت" على محمد - صلى الله عليه وسلم - كونه توفى، وحملوه على الروح القدس كونه باقياً - وفق معتقدهم - لا يزول, ولكن السؤال هنا أن الوصف له طرفان: أحدهما: المبشر به وأنه باق إلى الأبد، والثاني المبشرون وهم التلاميذ، وأن ال"بيروكليت" سيبقى معهم، وإذا حمل بقاؤه على الخلود الأبدي فيلزم منه خلود التلاميذ؛ لأنه يخلد فيهم ويبقى معهم، فإن قيل: تؤول التلاميذ بالأمة النصرانية، قلنا: المراد ببقاء محمد ليس خلوده ولكن دينه وهديه وشريعته، فإذا صح تأويلكم التلاميذ بالأمة النصرانية، فلم لا يصح تأويل بقاء "بيروكليت" ببقاء دينه وشريعته ؟ وهو ما ينطبق على محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي ختم الله به الرسالات وجعل دينه دينا لكل جيل جاء بعده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
الوصف الثامن: أنه "روح الحق" وهذا الوصف ظنه النصارى مختصاً بالروح القدس، فلا يجوز أن يوصف بشر بأنه روح، وهذا مناف ومخالف لما جاء به كتابهم "المقدس" حيث بين يوحنا أن الأنبياء يطلق عليهم روح أيضاً كما جاء في إنجيله: " بهذا تعرفون روح الله: كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فهو من الله، وكل روح لا يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فليس من الله ".
الوصف التاسع: أن التلاميذ يعرفونه، وذلك في قول المسيح: "وأما أنتم فتعرفونه" والمعرفة هنا معرفة علمية، فالتلاميذ يعرفون نبي الإسلام بالأوصاف التي أخبرهم بها المسيح - عليه السلام - كما يعرفون "الروح القدس" بأوصافه لا بشكله، فهذا الوصف كما يمكن أن يصدق على الروح القدس يصدق على نبي الإسلام – صلى الله عليه وسلم -.
الوصف العاشر: أنه لا يفارق التلاميذ بل يكون معهم وفيهم، " لأنه ماكث معكم ويكون فيكم " وقد اعتمد النصارى على هذا الوصف في نفي أن يكون المراد بال"بروكليت" محمداً - صلى الله عليه وسلم – حيث قالوا: إن التلاميذ ماتوا قبل بعثة نبي الإسلام بقرون فكيف يصح أن يقال: إنه فيكم ومعكم ؟ والجواب عن هذا يكون بتحديد المراد بخطاب المسيح -عليه السلام - هل هو أعيان التلاميذ أم عموم الأمة النصرانية ؟ والجواب أن المراد هم عموم الأمة النصرانية، وأن الخطاب ليس محصورا في التلاميذ، ولا فيمن عاصر المسيح عليه السلام، بدليل قول المسيح عليه السلام لتلاميذه: " أقول لكم: من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة، وآتياً على سحاب السماء" (متى 26/64)، وقد مات المخاطبون وفنوا، ولم يروه آتياً على سحاب السماء فدل على أن المراد بالخطاب عموم أتباعه - عليه السلام - من رآه ومن لم يره .
الوصف الحادي عشر: أنه يشهد للمسيح، وذلك في قول المسيح:" فهو يشهد لي"، وهذا الوصف ينطبق على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، أكثر من انطباقه على "الروح القدس" إذ أننا نجد النبي – صلى الله عليه وسلم - يبريء المسيح من ادعاء الألوهية، ويشهد بمقام النبوة والرسالة، في حين لا نجد للروح القدس أي شهادة بهذا الخصوص ولا بغيره !!
الوصف الثاني عشر: أنه يبكت – يوبخ - العالم على الخطيئة، حيث قال المسيح: " ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية، وعلى بر، وعلى دينونة "، وهذا الوصف ينطبق على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو الذي وبخ العالم على الخطايا والذنوب، والنصوص القرآنية والنبوية أكثر من أن تحصر في ذلك .وأما توبيخه العالم على البر فقد فسره المسيح بقوله " وأما على بر فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني "، ومعناه أنه سيوبخ القائلين بصلبه، المنكرين لنجاته من كيد أعدائه، وأما توبيخه الشيطان الذي أطلق عليه المسيح رئيس العالم فهو بانتشار هديه، ودخول الناس في دين الله أفواجاً، وإغاظة الشيطان وإذلاله كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ( ما رؤى الشيطان يوماً هو فيه أصغر، ولا أدحر، ولا أحقر، ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام ) رواه مالك ، وهذه الأوصاف من دينونة الخطايا والبر والشيطان لم تصح عن "الروح القدس" كلها، فهو لم يوبخ الناس على الخطايا، ولم يوبخ الشيطان، ومن أنكر ذلك فليأتنا بنصوص عن "الروح القدس" تبين ذلك وتوضحه .
الوصف الثالث عشر: أنه يرشد إلى جميع الحق، وذلك في قول المسيح: " فهو يرشدكم إلى جميع الحق" وهذا الوصف يصدق على نبي الإسلام – صلى الله عليه وسلم – فهو الذي أرشد الأمة، بل البشرية جميعا إلى كل شيء إن لم يكن على سبيل التفصيل فعلى سبيل الإجمال وبيان مفاتيحه فهو فصل في الأمور الدينية والأخروية وبين مناهج التعامل مع الشؤون الدينية وسبل التعاطي معها، فعلم الأمة صغائر الأمور وكبارها، والآداب والأخلاق والمعاملات والسياسة والاقتصاد ، فما من خير إلا ودلنا عليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، في أن هذه الميزة لا تعرف للروح القدس ومن زعم أن الروح القدس أرشد الأمة النصرانية لجميع الحق فليأت ببينة ذلك وأنى له !!
الوصف الرابع عشر: أنه يخبر بأمور مستقبلة "ويخبركم بأمور آتية" وهذا الوصف يصدق على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - حيث أخبر الأمة بأمور كثيرة مستقبلة حدثت في حياته وأخرى بعد وفاته، ومن يطلع على علامات آخر الزمان التي أخبر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وحجم النبوءات التي أخبر بها النبي وتحققت يقطع بصحة نبوته وصدق رسالته، في حين أنه لم يحفظ للروح القدس أنه أخبر بأمور مستقبلية بحجم أو قريب مما أخبر به عليه الصلاة والسلام .
الوصف السادس عشر: أنه يمجد المسيح ويعظمه، "ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم" ولا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عظم المسيح ومجده ورفع مقامه في أمة الإسلام، بعد أن غلت فيه أمته، وجعلت منه إلها معبوداً، فبين صلى الله عليه وسلم فضل المسيح ومنزلته وعبوديته لربه، واعترف بنبوته ورسالته وأنه أحد الأنبياء العظام أولي العزم فأي تعظيم وأي مجد أعظم من هذا ؟ في حين لم يحفظ عن "الروح القدس" شيء من هذا، ومن زعم أن المراد بهذه البشارة "الروح القدس" فليأت بنصوص تمجيده وتعظيمه للمسيح عليه السلام ؟!!
ومن هنا، ومن خلال هذه المقارنة، نستطيع أن نقول: إن النصارى أخطؤوا قراءة هذه البشارات في كتابهم، ولو تأملوا وتدبروا لعلموا أن الذي يتحدث عنه المسيح - عليه السلام - لم يكن الروح القدس، بل كان محمداً - صلى الله عليه وسلم -، وهذه النتيجة ليست إسقاطاً، ولا أماني نحاول إلصاقها بكتابهم، وإنما هي نتاج قراءة علمية موضوعية سرنا بك - أيها القارئ - في تفصيلاتها، ورأيت كيف أن كل الصفات التي وردت في حق المبشر به تنطبق على محمد - صلى الله عليه وسلم – ابتداءً من الاسم وانتهاء بالصفات .
ومن هنا ندعو جميع عقلاء النصارى إلى محاولة قراءة "الكتاب المقدس" بكثير من التجرد، والعقلانية، مع التحرر من القراءات السابقة، والقناعات المسبقة، والأحكام الجاهزة، والتأمل في تلك النصوص التي أوردنا بعضها من كتابهم، ومحاولة فهمها، فعندها ستجدون أن دلالتها على نبي الإسلام – صلى الله عليه وسلم - أقرب بكثير من دلالتها على غيره، وأن الإيمان بها واجب يفرضه دينكم وكتابكم، فكيف ترفضونه أنتم ؟ وتجعلون من بعض المؤاخذات المفتراة – في حق محمد صلى الله عليه وسلم - والتي قيل مثلها وأكبر منها في حق المسيح، - عليه السلام – تجعلون تلك المؤاخذات مانعا لكم من الإيمان به، والانقياد لأمره، وهي افتراءات لو عرضت على محك النقد لما كان لها وزن أو قيمة، فمزيداً من التعقل والتأمل، { قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد }(سبأ:26) .