يا لشقاء طالب العلم ويا لسعادته!
واعجبًا كيف يجمعهما؟!
إنْ توفر له كل شيء من وقتٍ ومؤنةٍ وكُتُبٍ وغيرِ ذلك، كان عليه أن يُكِدَّ نفسَه، ويَسْهَرَ الليالِيَ ليُحَصِّل!
فما بالُك ولا شيءَ مما سبق متوفر إلا القليل!
ولكن أعودُ فأقول: لا يبلغُ الكمالَ أحدٌ، ولا يأخذُ كلَّ النعم أحدٌ، فإن النعم إذا تمت زالت؛ لأن حياة الإنسان متغيرة، فإذا وصل إلى القمة - ولا بد له من تغير – لم يكن بُدٌّ من الهبوط والانحطاط، ولذا وجدنا الشاعر يقول:
إذا تَمَّ شيء بدا نقصه ترقبْ زوالا إذا قيل تَمَّ
إذا فرَّغ نفسَه وطلبَ.. غَمَزَه الناس، ولمزوه، وهمزوه، وسلقوه بألسنتهم!
وإن هو اقتحم الحياة في طلب الرزق.. أضاع عمره وأفناه!
والعلم يحتاج لعمر مديد مبارَكٍ فيه، مع جد واجتهاد، فما بالُك والوقتُ قصير ليس فيه بركة، ومع ذلك نطلُب مُتوانِينَ متخاذلِينَ!!، فما أبعدَنا من قول الحكيم:
أخي لن تنالَ العلم إلا بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيان
ذكاء وحرص واصطبار وبلغة وإرشاد أستاذ وطول زمان
فلنفترض أنه قد جمع الذكاء والحرص والاصطبار، وأعانه الله على البلغة!
فما أبعدَه من إرشاد الأستاذ الماهر وطول الزمان!، هذا مع أن الصفات السابقة لا تجتمع إلا فَلَتات، فالذكاءُ يُبعد صاحبه - في الغالب - عن الاستظهار، والحرصُ والاصطبار والاجتهاد كل ذلك يؤثر في العقل؛ لأنه يحتاج لتفتح ذهن وصفاء نفس وعدم تكدر بالهموم، ويَعلَمُ مَنْ مدَّ يدًا إلى العلم أنَّ الجهدَ الزائد في الطلب يومًا يؤثر في صاحبه أيامًا، ما لم يهبْه الله الهمةَ العالية، كما قال الحكماءُ: لا يسمو المرءُ حتى يعلوَ أصغراه لسانُه وقلبُه، ويشرُفَ أكبراه هِمتُه ولُبه.
وصدق الشاعر إذ قال:
وما المرءُ إلا الأصغران لسانه ومعقوله والجسم خلق مصورُ
وصدق الأعور الشني حيث يقول:
لسانُ الفتى نصف ونصفٌ فؤاده فلم يبقَ إلا صورة اللحم والدم
فمن أراد هذا المنحى، وسلك هذا المسلك، فليجعل نصب عينيه قولَ الزمخشري:
سهري لتنقيح العلوم ألذُّ لي من وصل غانية وطيب عناقِ
وصريرُ أقلامي على صفحاتها أحلى من الدوكاة والعشاقِ
وألذُّ من نقر الفتاة لدفها نقري لألقي الرملَ عن أوراقي
وتمايُلي طربًا لحل عويصة في الدرس أشهى من مُدامةِ ساقي
وأبيتُ سهران الدجى وتبيتَه نومًا وتبغي بعد ذاك لَحاقي؟!
فِعْلا؛ من جَدَّ وَجَد، ومن زرع حصد، والطغرائي يقول:
الجد في الجد والحرمان في الكسلِ فانصَب تُصب عن قريب غاية الأملِ
والشاعر يقول:
بقدر الكد تُكتسب المعالي ومن طلب العلا سهِر الليالي
ومن طلب العلا من غير كد أضاع العمرَ في طلب المحالِ
تروم العز ثم تنامُ ليلا يغوصُ البحر من طلب اللآلي
والحكيم يقول:
سافر تَجِدْ عوضًا عمن تفارقُهم وانصَبْ فإن لذيذَ العيش في النصَبِ
وقد مر علي وقت أيقنت فيه بعجُز هذا البيت!
وقال الشاعر:
إذا نام غِرُّ في دجى الليل فاسهَر وقم للمعالي والعوالي وشَمِّرِ
وسارِعْ إلى ما رُمت ما دمت قادرا عليه وإن لم تُبصر النُّجْح فاصبِرِ
وفي معناه قول الآخر:
صِلِ السعيَ فيما تبتغيه مثابرا لعل الذي استبعدتَ منه قريبُ
وعاوِدْه إن أكدى بك السعيُ مرة فبين السهام المخطئاتِ مصيبُ
وبمعناه:
لا تيئسُن إذا كبوتُم مرة إن النجاح طريقُ كل مثابرِ
وهذا المعنى لا يُستقصَى في شعر الشعراء
جعلنا الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه!
إنه سميع مجيب.